مقعد طرابلس الماروني إنعكاس للعيش المُشترك التّاريخي في المدينة
على عكس الفترة التي سبقت دورة إنتخابات العام 2018، غابت حتى الآن الدّعوات العلنية بنقل المقعد النّيابي الماروني المُخصص لمدينة طرابلس إلى منطقة أخرى، تحت حجّة أنّ المقعد المذكور هو “لزوم ما لا يلزم”، لأنّ عدد الموارنة في المدينة لا يؤهّلهم للحصول على مقعد نيابي (بلغ عدد النّاخبين الموارنة في طرابلس في العام 2018 وفق لوائح الشّطب 5247)، في حين أنّ موارنة غيرهم يستحقّون هذا المقعد من الناحية العدّدية.
فمنذ تخصيص موارنة عاصمة الشّمال بمقعد نيابي لأوّل مرّة في دورة إنتخابات العام 1992، بعد زيادة عدد أعضاء المجلس النّيابي من 99 إلى 128 إثر إقرار إتّفاق الطّائف، بقي هذا المقعد محل “طمع” أحزاب وتيّارات وشخصيات سياسية مارونية عديدة ضاقت أعينهم به، وسعت دائماً لنقل هذا المقعد إلى مناطقها من أجل حلّ مشاكل وصراعات تمثيلها نيابياً، لكنّ جميع هذه المساعي باءت بالفشل، بسبب تمسّك فاعليات طرابلس ببقاء هذا المقعد فيها، واعتبار كثيرين داخل المدنية وخارجها أنّ هذا الطرح “خط أحمر” لا يمكن التساهل أو التجاوب معه بأيّ شكل من الأشكال، لأنّه يفتح الباب أمام دعوات مماثلة بنقل مقاعد نيابية من منطقة إلى أخرى للسبب نفسه.
أبرز هذه الدعوات جاءت حينها من قبل التيّار الوطني الحرّ، الذي أراد نقل هذا المقعد إلى البترون لتسهيل فوز رئيسه النّائب جبران باسيل بالإنتخابات، بعد خسارته دورتَي 2005 و2009، وتحت حجّة أنّ ناخبي القضاء يستحقون مقعداً نيابياً ثالثاً، بالنّظر إلى عددهم، الذي يبلغ وفق لوائح الشّطب أكثر من 44 ألف ناخب.
وزاد الطين بِلَة أنّ هذا المقعد اعتُبر “جائزة ترضية” لمرشحين من خارج المدينة، وهو ما حصل مع إبن الشّوف النّائب السّابق الياس عطالله الذي ترشّح في دورة إنتخابات العام 2005 عن المقعد الماروني في طرابلس على لائحة تيّار المستقبل وفاز به، وكذلك الأمر مع إبن البترون النّائب السّابق سامر سعادة الذي ترشّح عن المقعد نفسه في دورة إنتخابات العام 2009 وفاز به.
غير أنّ هذا التبرير لم يكن مقنعاً، لأنّ ناخبين موارنة آخرين في أقضية أخرى يزيد عددهم على عدد ناخبي البترون قد خصّص لهم القانون مقعدين نيابيين فقط، مثل ناخبي بشرّي الذي يبلغون وفق لوائح الشّطب أكثر من 48 ألف ناخب، وناخبي جبيل الموارنة الذين يناهز عددهم 54 ألف ناخب، فضلاً عن وجود قرابة 12 ناخب ماروني في قضاء الكورة لم يُخصّص لهم القانون مقعداً نيابياً.
غير أنّ رفض فاعليات طرابلس نقل المقعد الماروني منها لم يقتصر على السّياسيين فقط. راعي أبرشية طرابلس المارونية السّابق المطران جورج بو جودة، رفض هذا الطرح أيضاً، عندما أكّد قبل إنتخابات 2018 أنّه “لا نُشجّع على نقل المقعد الماروني ونتمنّى بقاء الوجود السّياسي الماروني في طرابلس لأنّه يغنيها، ونطالب بعدم تفريغها منه. فلا يجب حلّ أزمة مقاعد البترون على حساب مقعد طرابلس، وإذا أرادوا حلحلة مشاكل الأحزاب الأربعة (التيّار الوطني الحرّ، القوّات اللبنانية، تيّار المردة وحزب الكتائب) في البترون، فلا يجب أن تكون على حسابنا”، مشدّداً على أنّه “حتى ولو لم يكن لحجم النّائب الماروني تأثير عدديّ في طرابلس، فمن المؤكّد أنّه سيكون له تأثير معنوي”.
هذا التأثير المعنوي يشير إليه الباحث في الشّؤون الإنتخابية، الدكتور إيليا إيليا، الذي أوضح لـ”أحوال” أنّ “رمزية المقعد الماروني في طرابلس بأنّه يمثّل إحدى العائلات الروحية ومن المكوّنات الرئيسية في المدينة، ويعكس التعايش المشترك الذي اشتهرت به، لأنّ فلسفة القوانين الإنتخابية في جميع دول العالم تقوم على مبدأ التعايش الميثاقي وليس الكثرة العدّدية أو قلّتها”.
ويعود إيليا بالذاكرة إلى الوراء ليُذكّر بأنّ “قانون إنتخابات 1960 كان قد خصّص لموارنة طرابلس مقعداً نيابياً، بعد رفع عدد أعضاء المجلس النّيابي من 66 إلى 99 نائبًا، لكنّ هذا المقعد نُقل إلى زغرتا لحلّ الخلافات بين عائلات القضاء الرئيسية الثلاث، فرنجيّة ومعوّض والدّويهي”.
في العام 1992، جرى تثبيت المقعد الماروني في طرابلس وفاز به النّائب الرّاحل جان عبيد 3 دورات متتالية في أعوام 1992 و1996 و2000، لكنّه عزف عن الترشّح عام 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ثم ترشّح في العام 2009 ولم يحالفه الحظ، ليعود ويفوز بالمقعد مجدّداً في العام 2018 على لائحة تيّار العزم، بشكل بدا وكأنّ هذا المقعد قد فُصّل على مقاسه، قبل أن توافيه المنّية في 8 كانون الثاني (يناير) 2021، ليشغر هذا المقعد للمرّة الأولى منذ استحداثه قبل نحو 3 عقود.
عبد الكافي الصمد